يمثل فن المالوف أو الموشحات الأندلسية المزدهر في ليبيا على مدار أزمنة طويلة رمزية فنية وثقافية، ويتربع على عرش المشهد الثقافي الليبي الذي شهد تذبذبا في أوقات مختلفة بسبب الأحداث السياسية التي عصفت بالبلاد.
وظل المالوف حالة إبداعية مجتمعية من خلال إقامته في الأفراح والمهرجانات والمناسبات الدينية المختلفة.
وقد كان للأديب الراحل خليفة التليسي دور بارز في حفظه حين أمر بتسجيل أكثر من 250 نوبة للمالوف لأول مرة عندما كان وزيرا للثقافة والفنون في العهد الملكي.
“المالوف” مألوف
يعد المالوف قالبا غنائيا بسيطا يرجع إلى ما ألفه الناس (أصل التسمية) من مشاعر وأحاسيس عبروا بها تجاه محبتهم شيئا ما، لكن هذه الأناشيد باتت تتجه إلى طابع مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم والسيرة النبوية، وقد عرف بأسماء مختلفة في بلدان المغرب، إذ يسمى “فن الآلة” في المغرب أو “الغرناطي” في بعض مدن غرب الجزائر، فيما يسمى “الصنعة” في العاصمة الجزائرية، ويحتفظ باسم “المالوف” في كل من ليبيا وتونس.
ويعود فضل انتشار الموشحات الأندلسية في ليبيا إلى المسلمين الفارين من غرناطة هربا من محاكم التفتيش الإسبانية سنة 1492 الذين حملوا معهم هذا الفن وقتها إلى بلدان المغرب العربي.
لكن المالوف الليبي ظل الأكثر ثراء بالإيقاعات والمقامات الموسيقية التي تصل إلى 14 مقاما -كما يؤكد عدد من المختصين- بعد موجة التطوير التي شهدها مع بدايات ولادة الدولة الليبية على يد الشيخ محمد اقنيص والشيخ محمود كانون والشيخ علي مكنوسة والشيخ محمد أبو ريانة، وصولا إلى الموسيقار حسن عريبي الذي أسس فرقة للمالوف تمثل ليبيا في المهرجانات الدولية عام 1964 بتكليف من الوزير التليسي حينها.
الصوفية موجة التطور
في القرن الـ13 زار مدينة طرابلس عالم الدين والمتصوف أبو الحسن الششتري وأمد الليبيين بعدد كبير من نصوص الموشحات، فأغرم بها أهل المدينة وحفظوها، وعندما استجلب الصوفية المالوف (النص المغنى) اكتشفوا أن لديهم مخزونا قديما من النصوص، لذلك بات لليبيا نصيبها من المالوف -كنص- أكبر من بقية المناطق التي انتشر فيها.
ويوضح الأكاديمي عبد الستار بشية صاحب أهم مراجع المالوف الليبي للجزيرة نت أن الارتباط الوثيق بين المالوف والمناسبات الدينية سببه الزوايا الصوفية العيساوية التي كانت الحاضنة الأقوى لهذا الفن في طرابلس، ومنها انتشر إلى مناطق أخرى في ليبيا، خاصة في المولد النبوي الشريف.
وبقول إن مناسبة المولد النبوي الشريف تعد الموسم الكبير لهذا الفن، حيث تنقل الزوايا احتفالاتها إلى الشوارع، ففي كل منطقة من مناطق طرابلس توجد فيها زاوية عيساوية أو أكثر، والخروج عادة كان يتزامن مع يوم الجمعة والعطلات.
رمضان دون “مالوف”
ورغم أن بشية يصر على أن المالوف لم يقدم في شهر رمضان إلا متأخرا -في السهرات التي تقام في منطقة المدينة القديمة بالعاصمة طرابلس- فإنه يناشد المسؤولين الاهتمام بهذا الفن “الذي يمثل ثروة قومية فنية، فكل الإسهامات الحالية لا تتعدى كونها جهودا فردية ومبادرات شخصية من محبي هذا الفن”.
وأضاف أن تراجعا ملحوظا يشهده المالوف الليبي مؤخرا، ليس على مستوى الكم فحسب، بل على مستوى الكيف أيضا، حيث إن بعض المؤدين حاليا لم يعودوا بمستوى الأجيال السابقة.
من جهته، يؤكد الموسيقي في فرقة الموسيقى العربية طارق الزروق أنه لن يكون هناك أي نشاط خاص بالمالوف في رمضان في غياب دعم ورعاية وزارة الثقافة وضعف القطاع الخاص والمؤسسات الأهلية.
ويقول “باتت أنشطتنا مقتصرة على إحياء الأعراس والمناسبات الاجتماعية بعد أن توقف مهرجان المالوف رسميا منذ عقد كامل وكانت آخر نسخة له في رمضان 2012″، رغم أن الزروق وزملاءه يرون في شهر رمضان الأجواء الملائمة لإبراز هذا الفن القائم على الذكر والمديح النبوي.
هذا التوقف يرجعه الباحث الموسيقي الدكتور عبد الله السباعي إلى عدم توفر الإمكانيات المادية، وغياب الإرادة والتصميم، وتناحر الجهات التي أشرفت عليه في السنوات الأخيرة.
طرب عصي على “محاربيه”
وإلى جانب غياب الدعم حاولت بعض الجماعات المتشددة النشطة في ليبيا بعد 2011 محاربة المالوف والموشحات الدينية، وأقدمت على هدم بعض الزوايا الصوفية وإغلاق أخرى، كما يوضح يوسف عريبي مدير فرقة حسن عريبي للمالوف للجزيرة نت، مؤكدا أن ذلك لم يمنع الليبيين من إقامته في الأعراس والمهرجانات والمناسبات الدينية، حيث تنشط أكثر من 35 فرقة موسيقية مختصة بفن المالوف والموشحات الدينية في شتى مناطق البلاد.
نوبات كـ”قطع أثرية”
بدورهم، يتحدث رواد المالوف في ليبيا عن صعوبات عديدة يواجهها هذا الفن، بينها مسألة الحقوق الأدبية والمادية، حيث يتحدث يوسف عريبي عن نتاج والده الراحل حسن عريبي “المشاع على موقع يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي دون حسيب أو رقيب، بل إن كثيرا منه تعرض للسرقة العلنية وأعيد إنتاجه دون إذن منا”، مما يعد خسارة كبيرة للفرقة التي أسسها حسن عريبي قبل أكثر من نصف قرن وساهمت في حفظ وتطوير ونشر فن المالوف عربيا.
فالفرقة التي يقول عنها يوسف عريبي إنها كانت تجوب العواصم العربية شرقا وغربا في سنوات خلت تكاد تقتصر مشاركتها الخارجية حاليا على الجارة تونس وبجهود شخصية وفي أضيق الحدود، رافضا العروض التي تلقاها من منتجين في تونس والجزائر لإعادة تسجيل إنتاج فرقته، مؤكدا أنها “كانت عروض مغرية في هذه الظروف بالذات لكنني رفضت، شعرت رغم تقديري لجمهور هذه البلدان الشقيقة أنني كمن يهرّب قطعا أثرية ليبية إلى الخارج”.
المصدر : الجزيرة