من جديد تفجّر الصراع في فلسطين المحتلّة، وشهد قطاع غزة مواجهات دمويةً لم تنقطع. من جديد تكرّر الصراع الأبدي حول الأرض المحتلة، وأيّ الطرفين أحقّ بها، وبالتأكيد احتلَّ المسجد الأقصى مكاناً ثابتاً في بؤرة هذه الصراعات الحربية والكلامية.
الحديث عن المسجد الأقصى شائك دائماً، بسبب النزاع الممتد منذ عقود حول الأحق بحُكم تلك الأرض المقدّسة منذ قديم الأزل. في لقاءٍ تلفزيوني، سُئل أحمد الخليلي، مفتي سلطنة عُمان، عن الحال التي كان عليها المسجد الأقصى قبل الإسلام فأجاب أنه كان “مكان عبادة، مكان طُهر، مكان تقرّب إلى الله في عهود النبوات السابقة حتى أراد الله أن يورّث هذا الأمر إلى هذه الأمة”.
بحسب النظرية الإسلامية، كان لليهود تواجد قديم بالفعل في تلك الهضبة المقدسة منذ زمن النبي سليمان، إلا أنهم فقدوا هذا الحق بسبب انحراف عقيدتهم وسُخّرت الأرض للمسلمين وحدهم -كما تحكي الروايات الإسلامية-، وهو ما يرفضه اليهود بالطبع.
هنا نحن أمام العديد من الإشكاليات: لماذا نظر العرب إلى هذه البقعة بتقديس حتى قبل ظهور الإسلام؟ وكيف عُرفت بالمسجد الأقصى قبل سنوات طويلة من إقامة أي بناء إسلامي فيها؟ أين صلّى الرسول خلال رحلة الإسراء والمعراج؟ ولماذا حبّب أصحابه بتلك البقعة من الأرض تحديداً؟
ما هو المسجد الأقصى؟
وفقاً لما ذكره عبد الله معروف في كتابه “المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك”، فإن كلمة المسجد لا يجب أن تحيلنا إلى المعنى المتداول اليوم لبناء يصلي فيه المسلمون، وإنما دلالتها أشمل من ذلك، إذ تتسع لتعبّر عن “كل موضع يُتعبّد فيه”، وبهذا فإن الأصل اللغوي للكلمة يدلُّ على أنه مكان للعبادة يُعدُّ مسجداً، بل إن الدكتور هيثم الرطروط، ذهب أبعد من ذلك، حين أكّد أن “المسجد في الأصل فناء يحتوي بناءً في أجزاءٍ منه”.
نحن أمام العديد من الإشكاليات: لماذا نظر العرب إلى هذه البقعة بتقديس حتى قبل ظهور الإسلام؟ وكيف عُرفت بالمسجد الأقصى قبل سنوات طويلة من إقامة أي بناء إسلامي فيها؟ أين صلّى الرسول خلال رحلة الإسراء والمعراج؟ ولماذا حبّب أصحابه بتلك البقعة من الأرض تحديداً؟
وقد اختلف المؤرخون المسلمون حول موقع “الصخرة المقدسة” التي كانت مقراً عريقاً وتاريخياً للعبادة منذ آلاف السنين، وذهب فريق من العلماء إلى اعتبار أن هضبة “موريا” كلها هي الصخرة المقدسة، فيما رأى آخرون أن المقصودة هي صخرة المعراج.
بحسب معروف، فإن المسجد الأقصى المبارك في المفهوم الإسلامي ليس بناءً محدداً وإنما هو كامل المساحة شبه المستطيلة الكائنة فوق هضبة موريا، وتبلغ مساحتها 144 دونماً، أي قرابة 144 ألف متر مربع. حالياً، يحيط بها سور وتقع داخل البلدة القديمة في القدس، وتحتوى قرابة 200 معلم تاريخي -كلها بُنيت في عصور إسلامية حديثة نسبياً- أشهرها: مسجد قبة الصخرة، الجامع القبلي (المسجد الأقصى المسقوف)، مسجد البراق، سبيل قايتباي، المدرسة الأشرفية، وغيرها من بقية المعالم المنتشرة في أنحاء المنطقة.
من إبراهيم إلى سليمان
وفقاً لـبحث حمّاد القباج “المسجد الأقصى: الجذور التاريخية والتأسيس”، فإن أول نشاط ديني نشأ في هذه البقعة قامت به فرقة من الصابئة، بعدما بنوا على صخرة ضخمة في المكان معبداً لتقديس كوكب الزهرة، وبحسب القباج فإن من ضمن طقوس عبادة الكواكب، سكب الزيت فوق هذه الصخرة.
أما ابن خلدون فقد ألمح إلى أن تقديس هذه البقعة من الأرض أقدم من فِعل الصابئة بعدما أكد أنها “كانت مكاناً للعبادة” قبلهم، جرى عليها مثلما جرى مع الكعبة وجوفها الذي وُضعت فيه الأصنام والتماثيل.
وحسب ما روى القباج، فإن تلك الأنشطة تزامنت مع وجود النبي إبراهيم الذي عاش فترةً من الوقت في فلسطين خلال عهد اليبوسيين، وهم قبائل عربية سكنت فلسطين منذ آلاف السنوات، ثم ورثتها منهم بعض بطون الكنعانيين، وبحسب المرويات فلقد التقى النبي إبراهيم بالملك اليبوسي “ملكي صادق” اليبوسي.
كانت هذه الزيارة الثانية لإبراهيم إلى فلسطين عقب عودته من مصر في حدود 1900 ق. م، وحينها عارَض أبو الأنبياء أنشطة الصابئة، ثم بنَى في تلك البقعة مقراً لعبادة الله الواحد ستصفه الأدبيات الإسلامية لاحقاً بأنه “ثاني مسجد أُسس في العالم”. فبحسب حديث منسوب إلى النبي محمد، فإن أول مسجد كان هو المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى بعده بـ40 عاماً.
ابن الجوزي وجد في هذا الحديث إشكالاً كبيراً، فكيف يبني إبراهيم المسجد الحرام، ومن بعده بأربعين ألف سنة يؤسس سليمان المسجد الأقصى، برغم أن الفاصل الزمني بينهما يزيد عن ألف سنة؟
خلق هذا التناقض خلافاً بين المؤرخين المسلمين حول هوية المؤسّس الأول؛ بعض المرويات نسبت فِعل البناء إلى الملائكة، أو إلى آدم، أو إلى ولده شيث بن آدم، وحاول القباج في بحثه إزالة التعارض بين هذه الروايات حينما رجّح أن يكون آدم هو أول مَن بنى المسجد الأقصى، وحينما وفد إبراهيم إلى المنطقة كان البناء قد تآكل، فرفع قواعده من جديد مثلما فعل مع الكعبة المشرفة، وهو ما فعله سليمان لاحقاً، أي أنه لم يبنِ من العدم، وإنما اكتفى برفع قواعد البناء القديم.
وهنا يجب التأكيد على أن المسجد الأقصى وطالما أنه ليس مبنى محدداً، فإن الإشارة القديمة إلى بناء النبي إبراهيم -أو غيره- له لا تعني بالضرورة إقامة منشأة ضخمة وإنما قد تعني أيضاً ترسيم حدود المساحة المقدسة فقط بسور حجري أو ما شابه.
ويختتم القباج حديثه عند تلك النقطة قائلاً: “منذ ذلك الحين صار لتلك الصخرة شأن ومكانة”.
اختلف عبد الفتاح حسن في كتابه “القدس: دراسة تاريخية حول المسجد الأقصى والقدس الشريف”، مع هذه الرواية قليلاً، مؤكداً أن اليبوسيين وملكهم كانوا موحّدين، ويضيف أن هذه الصخرة استضافت أُسسَ عبادة التوحيد منذ آلاف السنين، وأنهم أقاموا مبنى لعبادة الله (أطلقوا عليه اسم الإله سالم)، واعتادوا تقديم الذبائح فيه إلى الله طلباً للمغفرة، وأن إبراهيم حين مرّ بالمدينة طالَع هذا البناء دون أن يستنكر أفعالهم، ليكون هذا المسجد اليبوسي، أول بناء عبادة معروف أقيم في هذا المكان.
بعد ألف عام تقريباً من ظهور النبي إبراهيم، ظهر النبي داوود وأراد بناء مسجد (دار عبادة توحيدية) على الصخرة -نقلاً عن اليبوسيين- على القواعد القديمة التي وضعها إبراهيم، فمات قبل أن يتمّه، وأنهاه ابنه سليمان الذي انتهى منه بعد 4 سنوات من توليه المُلك الذي دام بين عامي 963 ق.م و923 ق.م، وبعد نحو 500 عام على وفاة موسى وفقاً لتقديرات المؤرخين، خُصّص هذا المبنى لتعبّد اليهود إلى الله.
ما بعد سليمان: غزوة البابليين
يُذكر أن الأدبيات الإسلامية نظرت إلى جميع دور العبادة التوحيدية التي أقيمت قبل الإسلام باعتبارها مساجد، لذا عُدّ “بناء إبراهيم” مسجداً، وكذلك المبنى الذي أقامه سليمان.
وصف ابن خلدون بناء سليمان في تاريخه قائلاً: “اتّخذ عَمَده من الصُّفر، وجعل به صرح الزجاج، وغشّى أبوابه وحيطانه بالذهب، وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب، وجعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد، وهو التابوت الذي فيه الألواح وجاء به من صهيون، بلد أبيه داوود”.
ثم يضيف ابن خلدون: “خرّبه بختنصّر (يقصد بناء سليمان) بعد 800 سنة من بنائه”.
فبعد وفاة داوود وسليمان انقسمت الدولة اليهودية إلى مملكتين؛ الأولى “مملكة إسرائيل” في الشمال، وعاصمتها شكيم/نابلس، وقد دمّرها الآشوريون، والثانية مملكة “يهوذا” في الجنوب وعاصمتها أورشليم/القدس، وصمدت فترةً أطول من الزمن، حتى هاجمها الملك البابلي نبوخذ نصّر، فدمّرها وأحرق المسجد الأقصى وسبَى اليهود إلى خارج الأرض المقدسة نحو العراق.
وحينما وصل الملك اليهودي هيورودس، إلى الحُكم، جدّد البناء وحسّنه، وفي عهد هذا الملك وُلد النبي عيسى.
ويعطينا العهد الجديد إشارةً إلى أحوال المسجد الأقصى خلال تلك الفترة، حينما ألمح أنه تحوّل إلى سوقٍ للبيع والشراء، وهو ما أثار اعتراض السيد المسيح قائلاً: “مكتوب في الكتاب: بيتي يدعى مكاناً للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”.
وفي 70 م، قام اليهود بثورة كبيرة ضد الحُكم الروماني في القدس عُرفت بِاسم “الثورة المكابية”، لأن الذين قاموا بها هم طائفة من اليهود المتدينين عُرفوا باسم “المكابيين”، وعلى إثرها حاصرهم القائد الروماني تيطس، وقمع الثورة متسبباً في تدمير المدينة وأبرز معالمها المسجد الأقصى.
وفي 135 م، بدأ الرومان ببناء مدينة جديدة على أنقاض المدينة المدمرة أسموها “إيلياء كابيتولينا”، وأخرج الرومان البقعة المقدسة من حدود مدينتهم تماماً، وبقيت أرضاً مهملةً خواء لا بناء فيها، وهو الوضع الذي استمر فترةً طويلةً من الزمن، وبحسب خريطة فسيفسائية بيزنطية في كنيسة “مادبا” في الأردن ظهرت فيها المساحة المقدسة فارغةً ولا بناء فيها.
أٌنجزت هذه الخريطة بين عامي 560 م و565 م، أي قبل ميلاد النبي محمد بسنوات قليلة، لذا يُمكننا عدّها أكبر مثال على أوضاع المسجد الأقصى في العصر النبوي.
ازدادت أوضاع المسجد الأقصى سوءاً حين خاض الفرس والبيزنطيون حروباً ضاريةً في فلسطين، انتهت بسيطرة الفرس على المنطقة لفترة محدودة، إذ سرعان ما انتزعها منهم البيزنطيون فحوّلوا المسجد الأقصى إلى “مكب للنفايات” انتقاماً من اليهود الذين عاونوا الفرس خلال الحرب.
زمن النبي
عندما فُرضت الصلاة على المسلمين، يمّموا وجوههم شطر هضبة موريا المقدسة التي ستُعرف في الأدبيات التاريخية عموماً باسم “المسجد الأقصى”، وتعددت المرويات التي عدّد فيها النبي لأصحابه فضل ذلك المسجد، أي تلك البقعة الكائنة في الشام، وحسب ما روى النسائي عن عبد الله بن عمر، فإن النبي حكى له أن سليمان ما أن انتهى من بناء المسجد حتى سأل الله: “ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يُخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه؟”. وفي حديثٍ آخر نقله الإمام أحمد، أن صحابياً سأل النبي عمّا يفعل إذا ابتُلي واضطر إلى الرحيل عن بلاد الحجاز، فأجابه النبي: “عليك ببيت المقدس، فعلّه أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون”.
الحديث عن المسجد الأقصى شائك دائماً، بسبب النزاع الممتد منذ عقود حول الأحق بحُكم تلك الأرض المقدّسة منذ قديم الزمن.
وبهذا تشارك المسلمون واليهود في التوجّه صوب الصخرة المقدسة لحظة الصلاة، وتعدّدت في كتب التاريخ الأحاديثُ التي نُقلت على لسان الرسول عن فضائل المسجد الأقصى، أشهرها حديث “لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. وهنا تجب الإشارة إلى فهم بعض العلماء المسلمين الكبار -مثل العسقلاني- لهذا الحديث بأنه رابطة بين الكعبة (قِبلة المسلمين الحالية) وبين المسجد الأقصى “قِبلة الأمم السابقة”، وهو المعنى الذي كرّره الفقيه جمال الدين القاسمي، في كتابه “الإسراء والمعراج”، حين وصف المكان المقدس بأنه “قِبلة الأنبياء”.
وبالطبع فإن رحلة الإسراء والمعراج لعبت دوراً رئيسياً في تضخيم أهمية هذا المكان، إذ استضافت البقعة المقدسية المقدسة صلاةً تاريخيةً في زمن البشر، أمَّ فيها النبي باقي الأنبياء، وقال عنها سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن”: “كأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدّسات الرسل قبله”.
من هذا المنطلق تتّضح أدبيات توري المسلمين لأحقيتهم في إقامة معابدهم التوحيدية في ذلك المكان، باعتبار أنهم ورّاث جميع الرسالات السابقة التي نُسخت بقدوم الإسلام.
خلال هذه الرحلة، كان المسجد الأقصى تحت حُكم الفرس المتحالفين مع اليهود، وهو ما دفع كثراً من المؤرخين لتخمين أحوال الصخرة المقدسة وقتها بأنها وإن كانت خاليةً من أي بناء، إلا أنها كانت في الأغلب نظيفةً ولائقةً كفاية لاستقبال صلاة النبي خلال رحلته التاريخية.
لم تدُم هذه الأوضاع طويلاً بعدما نجح الرومان في العودة إلى القدس، فأهملوا المنطقة المقدسة عمداً وجعلوها مكاناً للقاذورات والتراب، وهو وضع استمرّ أغلب فترات وجودهم في الشام، ولم ينتهِ إلا بقدوم الحُكم الإسلامي.
ظهور المساجد الإسلامية
في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، تمدّد الإسلام حتى نجح في اقتطاع الشام من الدولة الرومانية، ولم يشأ أهل القدس تسليمها إلا للخليفة نفسه، وبالفعل سار إليهم عمر وفُتحت له أبواب المدينة، وبطبيعة الحال فإن أول ما شغل عمر فورَ دخوله هي زيارة ذلك الموقع المقدس الذي توجّهوا إليه بقِبلتهم الأولى وزاره النبي خلال رحلة الإسراء وأسهب في الحديث عن أهميته وقدسيته.
روى ابن خلدون أن الخليفة عمر لمّا دخل القدس “سأل عن الصخرة، فأُري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكشف عنها وبنى عليها مسجداً وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه”.
روى ابن خلدون أن الخليفة عمر لمّا دخل القدس “سأل عن الصخرة، فأُري مكانها وقد علاها الزبل والتراب، فكشف عنها وبنى عليها مسجداً وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه”
روى المؤرخ ابن البطريق، أن “موضع الصخرة وحولها كان خراباً، ورموا على الصخرة التراب حتى صارت فوقها مزبلة عظيمة، فلم يعظمها الروم كما كان بنو إسرائيل يعظمونها”.
رأى عمر بن الخطاب المكان الموعود مجردَ هضبة خالية من أي بناء، فأمر بإقامة مسجد في ذلك المكان من الخشب، وهو أول مسجد بُني في الشام. لاحقاً ستضاف إليه زيادات كثيرة، ويُعرف اليوم بـ”الجامع القبلي”، وهو المصلّى الرئيسي في منطقة المسجد الأقصى حتى أن كثيراً من الناس يعتقدون أنه فقط يستحق لقب المسجد الأقصى.
طوال العهد الراشدي لم تعرف هضبة موريا أي بناء جديد، عدا المسجد العُمري/القبلي حتى بدأت الحقبة الأموية.
عرف الأمويون صراعاً على الشرعية في وقتٍ تراخت فيه سيطرتهم على بلاد الحجاز في أحيانٍ كثيرة، فاهتموا بالتأكيد على أنهم يحكمون واحدةً من أقدس بقاع الأرض وهي القدس القريبة من عاصمتهم دمشق، حتى أن بعض المؤرخين مثل اليعقوبي برّروا اهتمام الأمويين الكبير بتعمير الهضبة المقدسة بسبب رغبتهم في صرف الأنظار عن مكة والمدينة إلى الشام.
أخذ معاوية البيعة لنفسه داخل مدينة القدس، تيمّناً ببركتها ومكانتها، كما أمر بتجديد المسجد القبلي، وبناه من الحجارة بدلاً من الخشب ووسّعه حتى أصبح كافياً لاستضافة آلاف المصلّين، وبقي البناء على حاله حتى عهد الخليفة عبد الملك بن مروان.
بعدما بلغ الخليفة عبد الملك مدى افتتان الناس بضخامة قبة كنيسة القيامة وعَظَمة بنائها، أمر بإقامة قبة أعظم منها اختار أن تُبنى فوق الصخرة المشرفة وخصّص للإنفاق عليها خراج مصر كاملاً لمدة 7 سنوات حتى انتهى البناء في 72 هـ.
كانت هذه أول خطوة تكريمية تنالها الصخرة في عهد الإسلام، بعد عشرات السنوات من غضِّ الطرف عنها. يقول ابن تيمية: “لم يصلِّ عندها عمر بن الخطاب ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قِبلة، أما أهل العلم والتابعون فلم يكونوا يعظّمون الصخرة فإنها قِبلة منسوخة”.
وفي عهد الوليد أيضاً جرت عملية توسيع وترميم شاملة للجامع القبلي، وقد توفي قبل أن تنتهي، وإنما تمّت في عهد خليفته وابنه الوليد بن عبد الملك، وتظهر المرويات الضخامةَ التي صار عليها المسجد حينها، إذ كان المسلمون يدخلونه من 15 رواقاً، وهو ما قدّره باحثون بأنه كان على ضِعف مساحته الحالية، وبات يُعرف في بعض المراجع بـ”المسجد الأقصى المسقوف”.
في عصور إسلامية لاحقة، مثل الزمن العباسي والطولوني والفاطمي، تعرّض كلا المسجدين لأضرار بفِعل الزمن وتحديداً الجامع القبلي الذي تهدّم بنيانه كثيراً متأثراً بالزلازل المتتابعة التي شهدتها المنطقة، وألزمت هذه الأضرار حكام المسلمين على القيام بأعمال ترميم متتابعة للمسجدين.
في 130 هـ، تعرضت فلسطين لزلزال عنيف صدّع بنيان الجامع القبلي فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بإعادة ترميمه، وهو ما تكرّر في زمن الخليفة العباسي المهدي الذي أمر أيضاً بإصلاحه، وفي 426 هـ، قاد الملك الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله، عمليةً شاملةً لإصلاحه واختصر حجمه إلى النصف بعدما حذف أربعة أروقة من كل جهة مختصراً الجامع إلى 7 أروقة فقط.
وبالمثل أمر الخليفة المأمون بإجراء ترميم لقبّة الصخرة في 216 هـ، ثم كرّر الفعلة نفسها الخليفة المقتدر بالله في 301 هـ، وفي زمن الحاكم بأمر الله سقطت أجزاء من القبة، فأمر بإصلاحها وهي عملية لم تنتهِ إلا في 413 هـ، في زمن الظاهر لإعزاز دين الله.
المصدر: رصيف22