بحسرة وألم تقف المواطنة نعمة أبو ندى، أمام برج فلسطين وسط مدينة غزة، وتنظر إلى ما حلّ بشقتها السكنيّة في البرج المُكوّن من مئة شقة، والذي سوّته صواريخ الطائرات الإسرائيلية بالأرض، بعد ليلة قاسية شنّ فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي عشرات الغارات على مناطق متفرقة في قطاع غزة.
“ليلة قاسية جداً عشناها بعد أن جاءنا اتصال من ضابط المخابرات الإسرائيلي يطلب منا إخلاء البرج بشكل فوري دون اصطحاب أي شيء، من أجل استهدافه بالطائرات. خرجت بسرعة كبيرة أنا وأبنائي، ولم يسعفنا الوقت سوى لجلب شنطة وضعت فيها الأوراق الرسمية والثبوتية تحسباً لهذه اللحظة”؛ تقول أبو ندى لرصيف22، وملامح التعب والحزن تبدو واضحةً على وجهها.
تُعبّر بنبرةٍ يملؤها الغضب: “إحنا ناس ما إلنا علاقة بأي شيء. ليش هيك بيعملوا فينا، البرج فيه عشرات العائلات تشردنا وأصبحنا بلا مأوى وين بدنا نروح يا ربي وين…؟”.
لم يختلف الحال كثيراً لدى الحاج أبي رامي الشرافي، الذي دمرت الطائرات الإسرائيلية منزله المكوّن من 6 طوابق في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، إذ بالكاد استطاع أن يوقظ أبناءه وأحفاده الأطفال وينجو بنفسه قبل أن يصبح المنزل كومةً من ركام.
“ذهب البيت الذي يسكنه قرابة 30 فرداً وأصبحنا مُشردين لا نعرف مصيرنا ولا ماذا سيحدث لنا. المهم أننا نجونا ولم يُصب أحد من أطفالنا. هذه هي سياسة الاحتلال الذي يستقوي علينا نحن السكان العُزّل”
يقبض أبو رامي على عكازه الخشبي ويداه ترتجفان. يجلس على كرسي بلاستيكي أمام منزله المدمر، وعيناه تملؤهما الحسرة على ما حل به بعد أن عمل سنوات طويلةً من أجل بنائه لتأمين عائلته، كما يقول.
“ذهب البيت الذي يسكنه قرابة 30 فرداً وأصبحنا مُشردين لا نعرف مصيرنا ولا ماذا سيحدث لنا. المهم أننا نجونا ولم يُصب أحد من أطفالنا. هذه هي سياسة الاحتلال الذي يستقوي علينا نحن السكان العُزّل”؛ هكذا يصف الشرافي ما حلّ به، قبل أن تقطع مقابلتنا معه أصوات الانفجارات القريبة جداً من المكان؛ نتيجة استهداف الطائرات الإسرائيلية المتواصلة من الطيران الحربي، قطاع غزة.
وعاش المواطنون في قطاع غزة ليلةً داميةً من الغارات الإسرائيلية العنيفة، التي خلّفت عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فيما لا تزال طواقم الدفاع المدني الفلسطيني تعمل على انتشال العديد من العائلات التي قصفت منازلهم دون إنذار مُسبق، وبقوا تحت الركام.
تصوير مراسل رصيف22 محمد عطا الله
وكان رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة سلامة معروف، قد أكد أن العدوان الإسرائيلي خلّف حتى اللحظة 313 شهيداً و1،990 مصاباً، وتسبب في نزوح قرابة 20،000 مواطن يتواجدون في 23 مركز إيواء في مختلف محافظات قطاع غزة.
وقال معروف خلال مؤتمر صحافي تحدث فيه، عن تطورات العدوان على قطاع غزة، إن الغارات الإسرائيلية خلّفت أيضاً حتى منتصف الليلة الماضية، دماراً كلياً في 13 برجاً ومبنى وعمارةً سكنيةً بإجمالي 159 وحدةً هُدمت بشكل كلي، فيما تضررت بشكل جزئي 1،210 وحدات سكنية، منها 36 وحدةً باتت غير صالحة للسكن، ضمن المباني التي جرى قصفها من قبل الاحتلال، ومنها مرافق ومنشآت عامة في مقدمتها مقر رئاسة العمل الحكومي وبعض مقار الأحوال المدنية في عدد من المحافظات ومسجدين، ومن ضمن المنشآت المستهدفة 19 مرفقاً يتبع لوزارة الداخلية والأمن الوطني.
كثافة الغارات الإسرائيلية دفعت مئات العائلات، لا سيما التي تقطن المناطق الحدودية، إلى النزوح والتشرد نحو مراكز ومقار ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، حيث شوهد المواطنون يحملون حقائبهم وفرشاتهم وأطفالهم ويلجؤون إلى أقرب مقر لمنطقة سكنهم.
مشهد النزوح بقي متواصلاً حتى كتابة هذا النص، ففي مدرسة الإعدادية “أ” يفترش الخمسيني أحمد نعيم، الأرض ويُمسك بمذياعه الصغير الذي وضعه على أذنيه لسماع نشرة الأخبار، بعد أن ترك منزله في مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة.
يصف نعيم لرصيف22، ما تعرضت له المنطقة التي يسكنها لزلزال، بعد أن جرى استهداف أغلب المنازل المجاورة له: “ما خلّولنا إشي، والقصف خلانا نطلع جري إحنا وأولادنا ونسوانا حتى وجدنا أقرب مدرسة إلنا احتمينا فيها من شدة القصف”.
تصوير مراسل رصيف22 محمد عطا الله
وفي الفصل المُقابل له داخل مدرسة الأونروا، تُحكِم أم سعيد إغلاق النوافذ ببطانية جلبتها معها. وتحاول الأربعينية ستر بناتها وأبنائها وتكتفي بالقول: “ربنا ما يطولها من شدة، ونرجع لبيوتنا”.
بالتزامن مع ما سبق، تواصل فصائل المقاومة الفلسطينية المعركة التي أسمتها “طوفان الأقصى”، ولا تزال الاشتباكات متواصلةً داخل المستوطنات التي تمكّن عناصر المقاومة من الدخول إليها، مع استمرار إطلاق الصواريخ نحو البلدات الإسرائيلية، بينما تحاول إسرائيل استعادة ردعها المفقود بقصف منازل السكان الفلسطينيين وقتل المئات منهم.
يرى الخبير في الشأن الإسرائيلي والسياسي الدكتور وليد المدلل، أن الأوضاع في قطاع غزة مُرشحة لمزيد من التصعيد: “تتكلم عن أسرى واقتحام جهات تعدّها إسرائيل سياديةً والطرف الإسرائيلي جاهز للتصعيد وهذه المرة المعركة ليست ككل المرات”.
ويقول المدلل في حديثه إلى رصيف22، إن المقاومة من خلال اقتحامها جميع مستوطنات غلاف غزة ذاهبة دون تردد، ولديها خطة مُسبقة كي تصل وتحقق الانتصار وواضح أنها أنجزت ما تريد.
كثافة الغارات الإسرائيلية دفعت مئات العائلات، لا سيما التي تقطن المناطق الحدودية، إلى النزوح والتشرد نحو مراكز ومقار ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”
وحول توقعه لما يُمكن أن يحدث خلال الساعات المُقبلة، يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي أمام انهيار الردع وفشله الذريع لليوم الثاني من المعركة في استعادة السيطرة على المستوطنات، وتواجد عناصر المقاومة المستمر فيها، يجد نفسه في حرج أمام مجموعات وفصائل مسلحة أعدادها قليلة مقارنةً بكونه يمتلك قوةً نوويةً في المنطقة ويمارس “البلطجة” كيفما يشاء.
ويتوقع المدلل أن تستخدم إسرائيل قدراً كبيراً جداً من القوة، وتحاصر مناطق وتغلق أخرى، وتقطع الطرقات في قطاع غزة، وتعمل على تهجير الناس كونهم وسيلة ضغط على المقاومة. وقبل كل ذلك ستقوم بتأمين ساحتها الداخلية واستعادة السيطرة على المستوطنات، في ظل اختراق المقاومة وفرض القوة وتنفيذ عمليات أسر لبعض الجنود والمستوطنين والسيطرة على مواقع وأسلحة.
ويشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية أمّنت نفسها من الناحية الدبلوماسية والسياسية، وأخذت موافقة العديد من الدول وعلى رأسها أمريكا، لتنفيذ ما تريد في قطاع غزة كجزء من دفاعها عن نفسها كما تدّعي.
المصدر:رصيف22