مقدمة :
تشهد الأزمة اليمنية تطوراً كبيراً في إطار جهود إيقاف الحرب والتقدم خطوة نحو تحقيق السلام، عقب مساعي إقليمية حثيثة وبدعم دولي للتوصل الى هدنة دائمة في اليمن.
يأتي هذا في ظل حالة غير مسبوقة تشهدها الأزمة اليمنية من خلال التوقف عن القتال لمدة تقترب من السنة بعد تجديد الهدنة الأممية بشكل غير رسمي بين طرفي الصراع، منذ انتهاءها في الثاني من أكتوبر 2022. خصوصا مع تطور المحادثات الثنائية والغير رسمية بين السعودية وجماعة الحوثي.
غير ان أبرز ما يبشر بانتقال كبير في الوضع العام في اليمن هو الاتفاق الاخير الموقع بين الرياض وطهران والذي صرح طرفيه، بأن الوضع في اليمن من أولوياتهما. وآخرها تصريح الخارجية الإيرانية في الرابع من أبريل الحالي بأن حل الأزمة اليمنية يتطلب وجود حكومة وطنية وإطلاق عملة سياسية.
الا أن السؤال الذي يثار هنا هو ما طبيعة التسوية السياسية القادمة لحل الأزمة اليمنية، والتي ستتوافق عليها الأطراف الاقليمية الراعية لهذا الصراع؟ وفي سياق الكشف عن طبيعة هذه التسوية فإنه يجدر بنا تسليط الضوء على أبرز الاجندات المعدة للوضع في اليمن، والتي لطالما شكلت خطوط عريضة لمسارات الحرب والسلام في اليمن طوال سنوات الاقتتال الثمان، وهي الرؤية البريطانية في اليمن، التي كان قد أفصح عنها البريطانيون في وقت سابق من العام 2018، والتي تضع مصيرا مختلفا للمستقبل السياسي في اليمن، من خلال الاعتراف بالأوضاع القائمة في الوقت الحالي، والاقرار بمطالب السيادة الذاتية لأقاليم محلية يسيطر عليها أطراف وجماعات شمالا وجنوبا، خصوصا مع تصاعد مطالب الانفصال في الجنوب، ومطالب الاستئثار بالحكم في الشمال.
تسعى هذه المقالة الى كشف مدى تكريس الجهود السياسية والميدانية في اليمن لتطبيق الرؤية البريطانية في اليمن، لاسيما المستجدات الحديثة بعد الاتفاق السعودي الإيراني، والمحادثات الغير معلنة بين السعودية والحوثيين، والمحادثات الرسمية الجارية اليوم بين الحوثيين من جانب والسعودية والحكومة الشرعية من جانب، بوساطة عمان.
الرؤية البريطانية في اليمن
تنبني الرؤية البريطانية في اليمن على فكرة تثبيت حكم طائفي موال لطهران في الشمال “جماعة الحوثي”، ومحاولة إقناع السعوديين ان الحوثي منتج يمني خالص ويمكن التعامل معه كما حدث مع أسلافه الأئمة في السابق، جاء هذا على لسان “مايكل آرون” السفير البريطاني لدى اليمن في العام 2019 في مقابلة لصحيفة سعودية، في دعوة صريحة للرياض للتعامل مع سلطة الحوثي كأمر واقع. مقابل تكريس مشاريع التقسيم في جنوب اليمن من خلال دعم وتغذية الحركات المنادية بالانفصال عن اليمن الواحد، والتي تغذي الامارات والسعودية معظمها. ولطالما لعبت بريطانيا بورقة التعدد المذهبي في اليمن لا سيما الشافعي والزيدي، مؤججة الصراع بينهما، كما فعلت في حرب 1928م عندما كانت تقوم لندن بتحريض القبائل من كلا المذهبين ضد بعض، بينما لم يفرق القصف الجوي بين أي من المذهبين الزيدي والشافعي.
وفي هذا السياق، فقد أسندت المهمة للبريطاني “مارتن غريفث” للعمل كمندوب للأمين العام للأمم المتحدة في اليمن. حيث عمل “مارتن غريفث” طوال فترته بما يسمى “الإعلان المشترك” للحفاظ على توازن عسكري وسياسي بين طرفي النزاع، اذ انه وعقب نجاح اتفاق ستوكهولم عمل على منع سيطرة قوات التحالف على مدينة وميناء الحديدة عام 2018، للحفاظ على منفذ بحري استراتيجي لجماعة الحوثي يمثل العصب الحيوي لها.
تمكين سيطرة الحوثي على شمال اليمن
يبدو ان جماعة الحوثي هي الرابح الأكبر من هذه الرؤية البريطانية، ومن التطورات المتتالية التي تشهدها الأزمة اليمنية.
اذ تُحقق للجماعة وبصورة رسمية امكانية بسط السلطة وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية على مناطق شمال اليمن الخاضعة لسلطتها حاليا، وتضمن لها الاستقرار الامني والاقتصادي فيها، حيث وفي المحادثات الغير رسمية الاخيرة بين جماعة الحوثي والرياض فقد تم التوصل الى تفاهمات مهمة بخصوص “الهدنة الدائمة” بين الجانبين والذي تشكل حلقة من حلقات تحقيق الرؤية البريطانية للتسوية في اليمن، الى جانب الاتفاق السعودي الايراني، بقصد او عبر تخادم الملفات والقضايا؛ حيث توصل الطرفين السعودي والحوثي الى اتفاقات تعهدت فيها الرياض برفع الحضر عن مطار صنعاء الدولي، وفك الحصار المطبق على ميناء الحديدة. بالإضافة الى ضمان امدادات الجماعة من الطاقة الى مناطقها، بصورة مستمرة، وهو ما شددت الجماعة عليه، وذلك مقابل تقديم جماعة الحوثي ضمانات أمنية للمملكة بوقف شن الهجمات العسكرية على أراضيها.
تعزيز النفوذ السعودي في مناطق اليمن الشرقية
سعت ولا زالت السعودية للحصول على موطئ قدم لها في المنطقة الشرقية لليمن، هو هاجس قديم فشلت في تحقيقه في عهد النظام اليمني السابق.
حيث تسعى المملكة عبر التحركات الفعلية والجدية في محافظات اليمن الشرقية الى تحقيق أهداف استراتيجية، مرتبطة ببناء أنبوب نفطي ينقل النفط السعودي مباشرة من الأراضي السعودية الى البحر العربي عبر الأراضي اليمنية، بعيدا عن مضيق هرمز الخاضع للتهديدات الإيرانية.
فقد دخلت القوات السعودية الى محافظة المهرة في وقت مبكر، في نوفمبر 2017، وسيطرت على المطار بالإضافة الى المنافذ البرية والموانئ في المحافظة. كما قامت ببناء خمس قواعد عسكرية بالمحافظة، بزعم تأمين الحدود اليمنية العمانية من التهريب.
كما قامت شركة “هوتا مارين” النفطية السعودية ببناء ميناء نفطي بالمهرة، بدأت القوات السعودية في 2018 بإنشاء أنبوب نفطي يمتد من عمق المملكة في “شرورة” حتى سواحل المهرة.
كما دشنت المملكة نشر قوات عسكرية يمنية اشرفت الرياض الى تدريبها منذ منتصف العام 2022 حيث لا تتبع وزارة الدفاع اليمنية بل تتبع القيادة العسكرية السعودية مباشرة، تحت لافتة تأمين مدينة عدن مقر الحكومة، بينما انتشرت هذه القوات المتكونة من 8 ألوية على جميع المحافظات الجنوبية، لا سيما محافظتي المهرة وحضرموت الشرقيتين.
تقاسم لندن وأبو ظبي النفوذ في المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية
كان قد جرى الحديث عن مخطط تقاسم اليمن منذ عام ٢٠٠٦ حيث ترك الملف العسكري لأمريكا، والاقتصادي لدول الخليج التي تنفق على الحرب اليوم، بينما الملف السياسي استأثرت به بريطانيا، الراعية الرسمية لمشروع تقسيم اليمن، وهي التي تدير ملف اليمن السياسي في أروقة الأمم المتحدة باعتبارها “حاملة القلم”.
وان للندن عدة اعتبارات لاهتمامها بجنوب اليمن، تشترك فيها مع واشنطن، وهي الحرص التصدي لأي محاولات صينية محتملة في بسط النفوذ على الموانئ في محافظات اليمن الجنوبية والشرقية.
وعلى الصعيد الميداني فقد تحركت لندن في أغسطس 2020 وقامت بنشر قوات عسكرية تجاوزت أربعين جنديا إلى مطار الغيضة، مع أجهزة إلكترونية للاتصالات لإدارة عملياتها من وزارة الخارجية البريطانية. حيث تعمل القوات بالتعاون مع القوات الخاصة الامريكية الموجودة في المنطقة، حسب ما كشفه تقرير نشرته صحيفة إكسبرس البريطانية.
بيد إن الممثل الفعلي للندن يتمثل في الامارات، والتي تحركت بنهم طوال سنوات الحرب في اليمن سيطرة على الموانئ الاستراتيجية، على السواحل الجنوبية، والغربية لليمن، لاسيما السيطرة على ميناء عدن، والجزر اليمنية، ومضيق باب المندب، والمخا. بالإضافة الى مناطق النفط والغاز في مأرب وشبوة، لاسيما ميناء بلحاف الغازي على البحر العربي. وهي المصالح التي لضمان حمايتها أنشأت الامارات قوات عسكرية مختلفة في المناطق الجنوبية كالحزام الأمني والنخبة الشبوانية. كما تتبنى الامارات تأسيس ودعم الجماعات المطالبة بالانفصال في الجنوب، كان أبرزها إعلان المجلس الانتقالي من العاصمة الإماراتية أبو ظبي حكما ذاتيا في الجنوب، في 26 ابريل 2020. كما تسيطر الامارات على منطقة المخا وميناءها، والساحل المحيط بمضيق باب المندب الاستراتيجي، حيث نصبت معسكر ما تسمى “بقوات العمالقة” بقيادة طارق صالح.
وهو التنفيذ للخطة البريطانية في الاستحواذ على الشريط الساحلي الجنوبي والجنوبي الغربي لليمن، بما في ذلك الجزر الاستراتيجية والموانئ.
ما الذي يعنيه الاتفاق السعودي الايراني بالنسبة للرؤية البريطانية في اليمن
يقتضي الاتفاق بين الرياض وطهران ان تتوقف التصعيدات العسكرية والسياسية بين الجانبين سواء المباشرة او الغير مباشرة عبر الوكلاء. ما يعني توقف تصعيد جماعة الحوثي تجاه المملكة وبالمقابل توقف العمليات العسكرية التي تقودها الرياض في اليمن. بالإضافة الى العمل على التوصل الى تسوية سياسية مرضية بين طرفي الصراع في اليمن، خصوصا مع توفر النية لدى رعاة ومحركي هذا الصراع الخارجيين، وهو مالم يكن متوفر من قبل، اي خلال سنوات الحرب الثمان وجولات المفاوضات العديدة التي رافقتها.
ولعل ما يقود الى اعتبار الرؤية البريطانية قابلة للتطبيق بعد الاتفاق السعودي الإيراني بل هي خارطة الطريق للتسوية القادمة، هو الاعتراف المتبادل بين رعاة الأزمة اليمنية الاقليميون بنفوذهما الفعلي في اليمن (السعودية وإيران) وتوصلهما الى تفاهم مرضي لهما، أي المحافظة على نفوذهما في اليمن، وهو الأمر الذي يتوافق مع الرؤية البريطانية والأمريكية على حد سواء التي تسعى خلالها لندن لتقاسم النفوذ بين طهران والرياض في اليمن. وفقا لخارطة النفوذ التي أوضحناها آنفاً.
ان الاتفاق بين رعاة الصراع اليمني الاقليميين (طهران والرياض) لم يتعدى السقف الذي حدده أطرافه، وهو التهدئة وعدم التصعيد المضاد تجاه، ولم يتعداه الى تحديد مصائر الجماعات المسلحة التي تدعمها طهران في المنطقة لا سيما في اليمن، ولم يتناول الاتفاق تخلي كلا من الرياض وطهران عن مشاريعهما ومصالحهما في دول المنطقة والتي أبرزها اليمن، أو التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
وبالتالي فإن هذا الاتفاق لا يعني للأزمة اليمنية أكثر من سبب حاسم للتهدئة وتوقف التصعيد بالإضافة الى امكانية الانتقال الى وضع سياسي جديد وفقا لما تفاهم عليه رعاة الأزمة الاقليميون (السعودية وإيران)
خلاصة
ان المسارات السياسية والدبلوماسية للأزمة اليمنية، بالإضافة الى الوضع على أرض المعركة، تجري وفقا للأطر والمحددات التي وضعت لندن خطوطها العريضة من وقت مبكر من الأزمة اليمنية، إذ ان الرؤية البريطانية تتقاطع بصورة مريبة مع المصالح الخاصة لرعاة الصراع الإقليميون (الرياض وطهران)، فتمكين جماعة الحوثي من السيطرة على شمال اليمن يعد هدفا تسعى طهران لتحقيقه للجماعة حليفتها، ويلعب عليه البريطانيون في رؤيتهم في اليمن لأهداف استراتيجية في الشمال والجنوب، وبينما تسعى الرياض بنهم للظفر بموطئ قدم لها في المنطقة الشرقية لليمن، فإن هذا لا يتصادم مع المصالح الإيرانية والحوثية في اليمن، علاوة على دعم لندن لهذه المساعي السعودية وتمكينها لها، بينما يجري تتقاسم لندن وأبو ظبي للنفوذ والمصالح الاستراتيجية في الجزر اليمنية ومضيق باب المندب دون منازعة لمصالح الأطراف الاخرى.
وأي كان شكل وآلية التسوية السياسية القادمة التي ستصطف حولها اليوم الأطراف في الداخل والخارج، فإن خيار تقاسم النفوذ في اليمن هو الخيار الذي ترسو عليه اليوم سفن الأطراف المتصارعة، “كونه يلبي المصالح التي تسعى لتحقيقها”، وهو الخيار الذي رسمته لندن منذ وقت مبكر من اندلاع الصراع في اليمن.
اعداد : عمرو سعد، باحث سياسي في شؤون الشرق الأوسط
المركز الديمقراطي العربي