يمكن للعقلانية أن تنتهج سلوكًا عدميًا أقرب إلى الموقف البدائي. عقل يعمل خارج حقل التفكير السلبي، ويخون ذاته.
بهذه الحالة؛ حتى معيار المصلحة ينتفي، وبهذا لا يتبقى من جوهر العقلانية؛ سوى ادعاءات فارغة. ذلك أن السلوك العقلاني ليس صفة حتمية لدى البشر، بل هو خيار واعٍ يتفاوت من موقف لآخر.
مثلًا: من تجليات العقلانية العدمية حرصها على مناهضة أشد القضايا مصيرية، تحت حجة الحق في التفكير المتفرّد. إنها تستدعي مقولات فكرية عمومية؛ كي تقحمها كمبرر لخيانتها للقضايا الكبرى في حياة الأمم.
الموقف من حماس؛ يندرج تحت هذه الفهلوة اللئيمة. حيث حرية التفكير تعمل على الضدّ من قضية التحرر العام، وفي مقدمتها تحرير الأراضي الفلسطينية.
لهذا يمكنك أن تجد عقلًا يوصف بكونه عقائديًا -أي أنه مؤمن بأن الوجود لا يمكن تفسيره عقليًا فقط- لكنه يتخذ موقفًا براجماتيًا شديد الذكاء، وأقرب إلى تحقيق غايات العقل.
بالمقابل، يحدث أن تتفاجأ بأشخاص يُعرِّفون أنفسهم تحت عناوين حداثية تتخذ من التفكير المنهجي شعارًا لها؛ لكنها تتورط بتبنّي مواقف أقرب إلى الديماغوجية، وترتكس بذلك إلى حالة أسوأ من أولئك الذين لا يؤمنون بالعقل دائمًا، أو قُل لا يفكرون كثيرًا.
أوغلت في التجريد، فيما أردت التأكيد أن الشعارات العقلانية؛ لا تضمن لك موقفًا عقليًا ومثمرًا دائمًا.
يُقال: لكل حكيم حماقته الخاصة، ومن يدمن السير خارج القطيع -كما يزعم- يتجاهل احتمالية أن يتحول هو إلى قطيع دون أن يعي ذاته. ومثال حيّ على ذلك: مناهضو خيار المقاومة، أجدهم أقرب إلى صفة القطيع في هذا الموقغ. مع التنويه أن الحديث هنا ليس عن المواقف التقويمية للفعل المقاوم؛ بل عمّن يتموضع على الضدّ كليًا من خيار المقاوم بصرف النظر عن صوابها وخطأها.
تبدأ عدمية دعاة العقلانية، من مناهضة القيم والطِّباع الكلية للمقاومة. إذ لا قيمة لديهم لأي مضمون خطابي تتبناه المقاومة؛ بهدف إيقاظ القوة المعنوية للجماهير. لكأن البشر يتوجب أن يتصرفوا كريبوتات بلا إحساس ولا عواطف، ذلك أن العاطفة والانفعالات البشرية الأصيلة هي سمات للمجتمع البدوي، ويجدر بكل مؤمن بالعقل أن يتحاشاها. أليس هذا النوع من العقلانية؛ مفتقدا للبراجماتية كليًا، وعاجزا عن اجتراح طريق للمساهمة في تحرير شعب محتل..؟
كيف يمكن للسياسي العقلاني السخرية من عواطف الجماهير، فيما هو بحاجتها؛ لمواجهة خصم موغل في البطش، ورافض لأي مسار سلمي للحل..؟!
بوضوح أكبر. هذا الفريق من العقلانيين لا يؤمنون بالشرف. يقهقهون قائلين: ما الشرف، وما الكرامة، وما قيمة المقدسات، وما الجدوى من الدموع والأحزان. حسنًا، ما الذي يتبق من مفاهيم الحياة، حين تتبنى فلسفة نافية لكل دوافع البشر..؟ لا أدري.
هذه بالطبع، سمات للعدم. قطاع من هؤلاء العدميين يعملون في المنظمات. وعُمّال المُنظمات كما تعلمون لا يعترفون بالبطولات، ليس في قواميسهم أي معنى للشجاعة والتحدي والمواجهة. يا للبؤس!!
هذا الصنف من التقدميين هم النسخة الجديدة من فقهاء العبودية. شعارهم “لا تقاوم الطاغية ولو صفع خدك، أو مارس الفاحشة علنًا”. ليس عليك أن تواجه المحتل، وترفع بندقيتك ضدّه. فهذا سلوك جارح لحقوق الإنسان. هذه وصفة كاملة للخراب الأخلاقي، ومدمِّرة لطباع الإنسان الحر. هذه تجليات للعدمية، تفضي إلى مجتمع مسلوب القوة، ومذعن لكل ما يُفرض عليه.
هذا اللون من الليبرالية المريضة هو الطريقة المحتالة لتفسخ المجتمعات، منهج يرفع العقل شعارا له، وينشئ جيلًا قابلا للاستباحة، ومتصالحا مع الهوان. ثلاثة قرون والليبرالية العربية تروّج للأوهام التحررية الزائفة. وفي جوهرها تُدمّر كل عوامل التحرر في نفوس الشعوب. وحين تستفسر عن البدائل.. يُقال لك: افتح ذراعيك وعقلك وكامل قواك؛ كي تدوِّن ما يمليه عليك خصمك من شروط للحاق به.
تعرفونهم جيدًا، في ألسنتهم عبارات منسوخة من الكتب، وفي عقولهم منطق منفصل عن واقع الأمم المقهورة. المبشرون بالتقدم دونما وعي بطبائع شعوبهم. إنّهم ليسوا حملة لرايات التنوير، ويتوجب تجريدهم من هذه الصفة. هم لا يسيرون في مقدمة الصفوف، ولا يعِدون شعوبهم بالحرية، بل يمارسون عملية هدم لكل محاولات التحرر. وبين الهدم والعدم مسافة ضئيلة للغاية.
عقود وهم يسخرون من طباع الأمم الضعيفة، يحقِّرون عواطفها الجمعية، ويشككون بأي اصطفاف قومي يهدف إلى مراكمة عمليات التحرر. يقفون على الضدّ من أي قضية أو موضوع متصل بجوهر ومصير شعوبهم. والحجة أن مواقف الشعوب وعواطفها تتناقض مع ما قاله هذا الكتاب أو ذاك. كما لو أن ما جاء في الكتب، التي يعرفونها، هو الطريق الأوحد إلى التحرر وانتزاع الحق. يا لفداحة هذه البلاهة المعقلنة!!
الخلاصة:
هذا الصنف من منتحلي صفة العقلانية هم دجالون أيضًا. تصدوا لجهالتهم المقنّعة بالحكمة، وفي باطنها دعوة ذليلة إلى الاستكانة، ثقافة ارتكاسية بحسب فلسفة “نيتشه”. إنهم يرغبون باستدامة العجز والتخلي عن أي محاولة لإثبات قدرتك على صياغة وجودك دون وصاية من أحد.
أنت تقاوم. أنت لستَ فردا غوغائيا في القطيع؛ بل نموذج أسمى للإنسان المُحتج ضد اختلالات العالم. هذا يعني أنك ترفض قواعد اللعبة الفاسدة من جذورها، ولديك سردية أخرى للوجود تقاتل وتدعو إلى التفاوض حولها من جديد. فيما يريدك المتعقل المشبوه، الحكيم والمحترم، أن تكفر بكل ما أنت عليه، وتقف خاويًا في العراء. عليك أن تظلّ عاطلًا عن الفعل، ومنكشفًا هناك للأبد. ما لم، فأنت ضحية لجهلك؛ ضحية إيمانك بالحرية. حاذر أن تؤمن بهم، فإنهم لا يعدونك بشيء سوى احتقار الذات، أو التلاشي والعدم.
صباح الكفاح يا Gaza. مساء الحرية يا أبطال العالم!!