التحدي اليوم على مستوى المنطقة هو “الاسلام السياسي الشيعي”، ومقولته الحركية المتمثلة في “الإمامة” التي نراها متحققة ومُجسَّدة علانيةً في دولة كبيرة كإيران، أو في تنظيمات وجماعات مسلحة تهيمن بطرق متنوعة على الحياة العامة في دول محطمة كالعراق ولبنان واليمن.
سيقال: وماذا عن “الاسلام السياسي السني” ومقولته المتمثلة في “الخلافة”؟
سؤال لا غبار عليه.
لكن الخلافة حالياً مقولة سياسية ودينية ميتة، فهي ليست متحققة عملياً ولا مجسَّدة في كيان دولة مركزية كبيرة تتبناها صراحةً كبرنامج.
صحيح أنها لا زالت تمثل في فكر بعض التنظيمات الإسلامية السرية إرادة مُبيَّتة أو أفق مستقبلي مقموع: شيءٌ ما يشبه الطوبى والمثال الأخلاقي الغامض لا أكثر.
ثم إن “الخلافة” على الصعيد النظري سبقَ أن خضعت للمراجعة والنقد والدحض في أدبيات رجال الفكر والتنوير والإصلاح طوال القرن الماضي داخل الفضاء الاجتماعي والثقافي السُني نفسه.
والأهم من ذلك أن الخلافة -بمفهومها التقليدي المنسوب تاريخياً لـ أهل السنَّة- اختفت عملياً من مسرح التاريخ عند قيام الدول الوطنية العربية القُطرية المستقلة، بأنظمتها الملَكية والسلطانية والجمهورية العلمانية أو شبه العلمانية.
ولهذا نكرر:
الإمامة والولاية -بمدلوليهما السياسي الحركي الشيعي- يمثلان معاً القضية الرئيسية الأكثر خطورة بحيث يُفترَض أن تتصدر اهتمام من يعتبرون أنفسهم رجال الفكر والتنوير.
وإذا كان “الاسلام السياسي الشيعي” في إيران والعراق ولبنان والبحرين آفة طارئة حديثة، ولا يبدو أنه كذلك، فمما لا شك فيه أن هذه الآفة في شمال اليمن قديمة ومزمنة جداً بدأت مع ظهور أول “إمام زيدي” في نهاية القرن الثالث الهجري وحتى العام 1962م.
وإذا كان اليمن بدأ مسيرة تشكُّله الحديث ككيان وطني موحَّد انطلاقاً من اللحظة التي تخلص فيها من تلك الآفة، فليس من قبيل الصُدفة أن ينحلَّ بنيانه وتنتقض عُراه بالتزامن مع -أو بسبب- إصابته مجدداً بتلك الآفة العتيقة الموغلة في القِدم!
جدير بالذكر أن علاقة الحركة السياسية الزيدية في اليمن بإيران -كإقليم وكمجال تاريخي وحضاري مخصوص- لم تبدأ مع ثورة الخميني، كما يظن البعض.
قبل انتقالها إلى اليمن بقرنين، ظهرت الزيدية أولاً في العراق ونمت وترعرعت في شمال إيران.
وبحسب ويلفريد مادلونغ فقد ظلت العلاقات بين الزيديين في منطقة بحر الخزر (بحر قزوين شمال إيران) واليمن وثيقة جداً وخاصة خلال بعض المراحل في تاريخيهما، وذلك على الرغم من التباعد الجغرافي الكبير.
ومؤسس الإمامة الزيدية في اليمن، الهادي إلى الحق يحيى (توفي عام 298هـ/911م) زار طبرستان في البداية ليثبّت نفسه هناك، “وعندما استقر لاحقاً في اليمن دعمه فيها متطوعون زيود من منطقة طبرستان والخزر”.
ويضيف مادلونغ: “وفي عام 437هـ تم الاعتراف بعلوي قادم من مجتمع الخزر، هو الناصر أبو الفتح الديلمي (قُتل عام 444هـ) إماماً في اليمن.
وفي بداية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، اعترف يمنيون بإمامة أبي طالب الأخير (توفي عام 520هـ)، وهو من ذرية المؤيد الذي حكم في الديلمان وجيلان، وكان نائبه في اليمن من ذرية الهادي.
وفي ذلك القرن، جرت عملية إحضار غالبية أدبيات زيود طبرستان وأعمالهم لليمن على أيدي علماء فارس الزيود أثناء زياراتهم لليمن، وعلى أيدي علماء اليمن العائدين من زيارة مراكز التعليم الزيدي في شمال غرب إيران”، (ويلفريد مادلونغ، “أخبار أئمة الزيدية في طبرستان وديلمان وجيلان”).
ويستند مادلونغ إلى وثائق تفيد أن المجتمع الزيدي في طبرستان -شمال إيران- تحوَّل بالكامل إلى المذهب الشيعي الإمامي في النصف الأول من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
وهي الفترة التي أسست فيها السلالة الصفوية دولتها في إيران.
*المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة ”ريفلكشن عربي”