كوب شاي مثبت على سور شُرْفَة، صافرة قطار تصدح في أركان المدينة، قطة تجري بلوثة أمام سيارة على طريق سريع، وجِدة تحيك ملابس الأحفاد.. كلها أمور نشاهدها يوميًا في أماكن وأزمنة هنا وهناك يصعب إيجاد رابط بينها؛ لكن نظرية الفيزياء الكَمّيَّة تخبرنا بوجود تشابكات أعمق غير منظورة في الأكوان، فلكل مادة تأثير على أخرى، وبين المادة الواحدة روابط مع أكثر أجزائها صغرًا وعمقًا؛ أو كما يُبسط المعنى الشاعر الإنجليزي فرنسيس تومسون حين يقول:
“قوى الخلود متصلة.. فإنك لا تستطيع أن تهز زهرة دون أن تزعج نجمة”؛ (فرنسيس تومسون، شاعر إنجليزي).
هذه الخاطرة لمعت أمام عيني بعد عودتي من فترة التدريب الأولى لبرنامج زمالة “الصِّحافة للحوار، التي يقدمها مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، على مدار خمسة أيام قضيتها في العاصمة الأردنية عمان.
كنت ممن وقع عليهم الاختيار للمشاركة في اللقاء الذي جمع 35 صحفيًا/ة من 15 دولة عربية، قادمين من خلفيات دينية وثقافية مختلفة، لنتشارك في رغبات واحدة وهي مد حلَقات التواصل بيننا، وتبني خطابات إعلامية متسامحة في مواجهة أخرى تنتهج الكراهيَة، وشيطنة الآخر وإقصاؤه دون إعطائه فرصة الدفاع عن نفسه.
البرنامَج التدريبي تطرق إلى الحديث عن الحوار بين أتباع الأديان المختلفة، وكيف يكون الحوار أداة فاعلة لحل نزاعات عصية عن التفكيك في ظل ظروف راهنة دفعت بمجتمعات محلية إلى حالة من الفوضى والدمار وفتتها الحروب الطائفية والسياسية.
على طاولة واحدة أكل وشرب وضحك ومازح 35 إعلاميًا وصحافيًا بعضهم البعض، مارسنا أنشطة إنسانية على هامش الرحلة كالسهر حتى الساعات الأولى من الصباح في بهو الفندق المضيف، أو التسكع في الشوارع والأسواق وتجربة الأكلات الشعبية بالأردن، كلها أمور بسيطة أذابت ما تبقى من الجبل الجليدي الذي خلفته فرقة اللغة والدين والقناعات السياسية والثقافية لكل منَا.
عدت إلى مصر محملة بمشاعر طيبة وذكريات نقشت بصماتها في عقلي بعد هذه الرحلة وتدريباتها الرسمية من جهة، وجلسات المتدربين التي لم تقل أهمية عما تعلمناه في القاعات المغلقة من جهة أخرى، وكأنها جزء متمم كي نستوعب ما يقصده التدريب من مناهضة خطاب الكراهيَة في الإعلام العربي؛ فكيف سأمرر منذ الآن كلمة في أي نص أكتبه قد تفهم بشكل خاطئ إنها عنصرية أو مؤذية تجاه دولة/ دين/ طائفة/ جنس/ ثقافة… تختلف عني بعدما جلست مع أشخاص معجنون بتنوعات وشعرت بحبٍ جمٍ تجاه كل منهم؟
عدت أمارس أنشطتي، أكملت كتابًا كنت بدأته قبل الرحلة، يتناول المغالطات المنطقية المنتشرة في أحاديثنا وجدالاتنا اليومية وحتى مشاجراتنا.. مغالطات يقع فيها خبراء إعلام وصحافة وقادة دول وأشخاص عاديون على حد سواء، ربطت بين ما أقرأه والتدريبات وتأثير كلماتنا على الآخرين وعليً أنا شخصيًا.
تذكرت محاولة إقناع زميل عمل لي بصحة افتراضية أن مسيحيو مصر تربطهم قرابة ما ينتج عنها انتشار أمراض لين العظام والهشاشة والضعف العام أكثر من المسلمين، وتعليق فتاة لا أعرفها على صفحة صديق سخر من انتشار عبارات من نوعية سوء رائحة المسيحيين بسبب أكل الزيت في الأصوام الممتدة على مدار العام لتخبره أن هذا الرأي يحمل شيء صدق، عليه إثبات عكسه.
بدايات أعوام لا أذكر عددها سمعت فيها عبارات من سائرين بجانبي في الشارع المقابل لكنيستي من نوعية” اليوم يومكم”، إشارة إلى ما نقلوه على لسان شيوخ انتشروا عبر الشاشات في فترة التسعينيات وبداية الألفية الجديدة كانوا يرددون: “المسيحيين بيبوسوا (يقبلوا) بعض في الكنيسة ليلة رأس السنة” عبارة انتشرت كحقيقة غير قابلة للنقاش فباتت راسخة في أذهان مئات الألوف من المصريين، وربما بالبلاد العربية المجاورة”.
أذكر أن فتاة قضيت معها أسابيع تدريب في المجال السياسي، مطلع الألفية كانت تتجنب كل مرة السلام عليَ وتستغفر إذا لمستني صدفة، وحين سألتها عن السبب أخبرتني أنني نجسة وفق ما تعتقده، وأخرى تتهرب من مقابلتي كل عيد خوفًا من وقوعها في فخ التهنئة التي يحرمها متطرفون على أصحاب الديانات غير الإسلامية.
عشرات المواقف التي تحمل من القسوة اللفظية أشار لمثلها الكاتب عادل مصطفى في كتابه “المغالطات المنطقية” ولعل أبرزها مغالطة التعميم المتسرع، وهي واحدة من أكثر المغالطات شيوعًا في مجتمعاتنا، فأصحاب التحيزات العرقية والنعرات الشوفينية والطائفية والتعصب الديني يجدون مرتعهم في هذه المغالطة لتأكيد ميولهم الداخلية نحو الاقتناع بالصواب المطلق.
على النقيض التام لتلك التحيزات والمغالطات التي يمارسها كثيرون، يقع الحوار بشكله الهادئ، هذه القوة العظيمة القادرة على تحويل أعتى المتقاتلين إلى صناع سلام إذا ما تحاوروا بقواعد منطقية دون انحيازات أو توقعات مسبقة.
الحوار والمنطق، قيمتان في حاجة لجهد للخروج من مركزية العِرق وكهف الآراء الشائعة التي تحيط بنا منذ مولدنا في أعراف جماعاتنا، مهارات تحتاج إلى ثقل وتدريب ذاتي للتمييز بين حقائق العالم ومسايرة ما تصادف أن يكون رأي الأسلاف السائد في مسقط رأسنا وزمن وجودنا.
تمامًا كما وصف الشاعر الإنجليزي تومسون الزهرة التي تحركت فأزعجت نجمة في الفضاء البعيد، هو ما صنعه التدريب على الحوار واللقاءات الإنسانية على هامشه، ثم كتاب المغالطات المنطقية، كل عنصر مما سبق ترك أثرًا ما موصولًا في ذاكرتي وربما على قراراتي وتعاملاتي المستقبلية.
المصدر/ TAB