في نهاية أبريل/نيسان الماضي، عثرت السلطات الكينية على مقابر جماعية في غابة شاكهولا جنوب شرق البلاد تضم عشرات الجثث معظمها لأطفال لقوا حتفهم بعد الامتناع عن تناول الطعام حتى الموت.
والضحايا جميعا من أتباع طائفة دينية مسيحية قبضت السلطات على زعيمها القس بول ماكنزي الذي يحاكم الآن بتهم من بينها تحريض أتباعه على الموت جوعا.
فما الذي قاد للكارثة التي تطلق عليها وسائل الإعلام الكينية “مذبحة شاكهولا” وراح ضحيتها 179 شخصا على الأقل؟ ولماذا قرر مئات الناس تجويع أنفسهم حتى الموت في تلك الغابة الكينية النائية؟ وهل كان الجوع هو السبب الوحيد لتلك الوفيات أم أن بعض الأتباع قتلوا بطرق أخرى؟
في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) يروي أندرو هيغينز، مدير مكتب الصحيفة في شرق ووسط أوروبا، قصص بعض الضحايا من خلال شهادات أقاربهم الذين قابلهم عندما زار مزرعة القس في غابة شاكهولا وتحدث إلى بعض الأهالي في بعض القرى الكينية.
يقول هيغينز إن القس ماكنزي تمكن من استدراج العشرات من أتباعه إلى الغابة التي تقع في منطقة برية نائية في جنوب شرق كينيا من خلال خطابه الذي ينذر بنهاية العالم ويعدهم بالجنة ولقاء المسيح إذا امتنعوا عن الأكل حتى الموت. ولم تفلح محاولات أقارب أتباعه ومعارفهم في إنقاذ بعضهم من المصير البائس الذي ينتظرهم في تلك المنطقة النائية.
استغاثة وهذيان
ومن بين الضحايا الذين أورد التقرير قصصهم، بائع متجول يدعى سولومون مويندو (35 عاما)، هجر منزله واصطحب زوجته وطفليه الصغيرين ليعيشوا جميعا في غابة شاكهولا منذ عام 2021، استجابة لتعليمات القس ماكنزي.
أرسل مويندو، الذي كان يهذي من شدة الجوع، رسالة نصية الأسبوع الماضي إلى أخته الصغرى تشي باضطرابه، فقد أرسل يتوسل إليها لمساعدته على الهروب، لكنه كان لا يزال واقعا تحت تأثير مواعظ القس الذي استدرجه هناك، واعدا إياه بـ”الخلاص” من خلال الموت جوعا.
كتب مويندو لأخته الصغرى يقول “ردي علي بسرعة، فليس لدي الكثير من الوقت. أختي، لقد قامت القيامة والناس يُصلبون”، ثم أضاف “توبي إلى الله حتى لا تتخلفي عن الركب”.
وعندما قدم مويندو وعائلته الصغيرة إلى الغابة، كان يلبي نداء بول ماكنزي، سائق سيارة أجرة تحول إلى قس يعظ الناس في خطب يبثها التلفزيون، وقد أعلن أن العالم على وشك الانتهاء، وسوّق لأتباعه شد الرحال إلى غابة شاكهولا موهما إياهم بأنها ملاذ للمسيحيين الإنجيليين من أهوال نهاية العالم التي توشك أن تقع.
البعض قضوا خنقا أو بسبب الضرب المبرح
يقول مراسل نيويورك تايمز إنه بدلا من الجنة والملاذ الآمن الموعود، أصبحت غابة شاكهولا الآن -التي تبلغ مساحتها حوالي 800 هكتار- مسرحا لجريمة مروّعة، حيث تناثرت فيها قبور أتباع مكنزي الذين قضوا جوعا انصياعا لوعوده بأن يطهروا أنفسهم حتى يتمكنوا من لقاء المسيح.
ووفق الصحيفة، فقد تمكنت السلطات الكينية حتى الأسبوع الماضي من استخراج 179 جثة، نقلت جميعها إلى مشرحة مستشفى في بلدة ماليندي الساحلية، التي تبعد حوالي 160 كيلومترا شرق شاكهولا، وذلك لتشريح الجثث وتحديد هويات أصحابها.
لكن المأساة هي أن التشريح أظهر أسبابا أخرى لبعض الوفيات غير الجوع، فقد أفاد كبير الأطباء الشرعيين بالحكومة الكينية الأسبوع الماضي أنه في حين كان الجوع سببا في العديد من الوفيات، فقد ظهرت على بعض الجثث علامات تدل على أنهم قضوا بسبب الاختناق ومنهم من قضى خنقا أو بسبب الضرب المبرح بالهراوات. كما أظهرت تقارير الشرطة أن بعضهم قد أزيلت بعض أعضائه الحيوية.
مئات المفقودين
ووفق تقرير نيويورك تايمز، فإن مئات الناس ما زالوا في عداد المفقودين، وتخشى السلطات أن يكونوا قد ماتوا ودفنوا في قبور لم تكتشف بعد. في حين لا يزال البعض يهيمون على وجوههم في الغابة بدون طعام مثل مويندو، الذي تقول شقيقته إن زوجته وطفليه ضمن المفقودين.
ويشير التقرير إلى أن السلطات الكينية تحاول فهم كيف لم تلاحظ سلطات إنفاذ القانون المذبحة المروعة التي جرت على مدى فترة طويلة في شاكهولا في بلد يُعد من أكثر دول أفريقيا حداثة واستقرارا.
كما أثارت المذبحة أسئلة حساسة حول الحرية الدينية التي هي حق منصوص عليه في الدستور الكيني.
وأورد تقرير نيويورك تايمز إفادات شهود آخرين، زار بعضهم الغابة من قبل وحاولوا ثني الناس عن الانتحار جوعا، لكنهم لم يفلحوا في ذلك. كما تحدث معد التقرير إلى بعض الأهالي الذين لا يزالون يبحثون عن أقاربهم المفقودين.
تحقيق شامل
وكانت السلطات الكينية قد أعلنت بدء تحقيق شامل بشأن مجموعة “غود نيوز إنترناشيونال تشرتش” (Good News International Church) برئاسة بول ماكنزي.
وقال وزير الداخلية الكيني كيثور كينديكي -الذي كان يتحدث من أمام مشرحة مستشفى مدينة ماليندي الساحلية- للصحفيين إن عمليات تشريح الجثث قد تستغرق أسبوعا أو أكثر تقريبا إذا سارت الأمور على ما يرام.
كما صرح لاحقا بأن التقارير الأولية أشارت إلى أن “بعض الضحايا قد لا يكونون قضوا جوعا، وهناك طرق أخرى استخدمت، بما في ذلك إيذاؤهم”.
ويحاكم ماكنزي ورئيس كنيسة “الحياة الجديدة” إيزيكييل أوديرو الذي أُوقف في أبريل/نيسان الماضي، بتهم من بينها ارتكاب جرائم قتل، والمساعدة على الانتحار والخطف والتطرف، وجرائم ضد الإنسانية، وسوء معاملة الأطفال، والاحتيال، وتبييض الأموال.
وقال المدعي العام الكيني بيتر كيبروب قبل نحو أسبوعين إن هناك “معلومات موثوقة” تربط الجثث التي عُثر عليها في الغابة بمصرع عدد من “أتباع أوديرو الأبرياء والضعفاء”.
وقال كيبروب في وثائق قضائية إن أوديرو وماكنزي “شريكان في استثمارات تجارية”، بما في ذلك محطة تلفزيونية كانت تستخدم لبث “رسائل متطرفة” إلى أتباعهما.
المصدر : الجزيرة + نيويورك تايمز