أقرَّ مجلس الدولة الفرنسي، أعلى هيئة قضائية في البلاد، قرار وزارة التعليم القاضي بحظر ارتداء العباءة على التلميذات بالمدارس الفرنسية. ذلك بعد أن أعلن عنه وزير التعليم الجديد غابرييل أتال، وشدد على سعيه لوضع “قواعد واضحة على المستوى الوطني” لمديري المدارس من أجل تطبيق هذه القرارات “انطلاقاً من الأسبوع المقبل”، حسب تصريحاته لقناة “TF1” المحلية.
وسرعان ما شرعت إدارات المدارس الفرنسية في تطبيق القرار، وإرسال عشرات الطالبات اللواتي تحدينه إلى بيوتهن. ووفق ما أوضح وزير التعليم الفرنسي، في تصريحات أخرى يوم الثلاثاء، فإن نحو 300 فتاة تحدين منع العباءة في المدارس وحضرن بهذا اللباس، مضيفاً أن معظمهن وافقن على تغييره لكن 67 رفضن وأُرسلن إلى منازلهن.
واحتج على القرار عدد من الفاعليات الحقوقية الفرنسية والهيئات الإسلامية بالبلاد. واعتبر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهو الهيئة الرسمية التي تمثل الإسلام في فرنسا، أن حظر العباءة في المدارس قرار “تعسفي” ويخلق “مخاطر عالية للتمييز” ضد المسلمين.
بينما يرى عدد من المحللين أن هذا القرار عنصري وذو خلفية استعمارية، ويستهدف تمييز المسلمات. كما يكشف الإقصاء الممنهج للمسلمين من الحياة السياسية الفرنسية، إذ لا يعود لهذه الجالية تمثيلية تدافع عن حقوقها داخل المؤسسات الدستورية للبلاد.
النساء المسلمات الأكثر تعرضاً للتمييز!
في تعليقها على قرار وزير التعليم، قالت كليمنتين أوتان، نائبة حزب “فرنسا الأبيّة”، إن قرار حظر العباءة “غير دستوريّ” و”مخالف للمبادئ التأسيسيّة للعلمانيّة”، ويمثل أعراض “الرفض المهووس للمسلمين” من جانب الحكومة. بينما يستهدف هذا الهوس بشكل أساسي المرأة المسلمة.
في تقرير أخير للجمعية الأوروبية لمناهضة الإسلاموفوبيا (CCIE)، فإن النساء المسلمات هن الأكثر تعرضاً للتمييز على أساس ديني بنسبة 81%، مقابل 19% للرجال. على حين تقع معظم حوادث التمييز هذه، حسب التقرير ذاته، في المؤسسات التعليمية بعدد 168 حالة عام 2022، من بين 384 حالة تمييز في عموم المصالح العامة الفرنسية.
وفي 83 حالة تمييز للمسلمات داخل المدارس، رصدها التقرير، قالت الضحايا إنهن تعرضن للتمييز بسبب لباسهن. بينما قد تذهب هذه الأفعال العنصرية حدّ حرمان هاته الطالبات من متابعة دراستهن، أو دفعهن إلى ترك التعليم.
وفي أغسطس/آب المنصرم، أدانت لجنة تابعة للأمم المتحدة الحكومة الفرنسية بممارسة التمييز ضد امرأة مسلمة مُنعت من الالتحاق بتدريب مهني في مدرسة عامة بسبب ارتدائها الحجاب. وخلصت اللجنة إلى أن “رفض السماح (للسيدة المسلمة) بالمشاركة في التدريب وهي ترتدي حجابها يشكل تمييزاً على أساس النوع الاجتماعي والديني”.
ويستمر هذا التمييز الذي يستهدف المسلمات إلى مجال العمل، وبحسب تقرير للشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية (ENAR)، فإن النساء المسلمات يعانين صعوبات في إيجاد عمل أكثر بمرتين من النساء الفرنسيات ذوات البشرة البيضاء.
ويضيف تقرير الشبكة، بأن النظام السياسي الفرنسي يمنع النساء المسلمات اللواتي يرتدين الحجاب من ولوج الحياة السياسية. ويذكر أن الضغط الإعلامي والمنع القانوني لارتداء الحجاب، غالباً ما يدفع المرشحات المسلمات إلى الانسحاب من المعارك الانتخابية خلال المرات القليلة التي ترشحن فيها.
إسلاموفوبيا بخلفية كولونيالية؟
وقبل قرار حظر العباءة بأسابيع قليلة، خرجت الرابطة الفرنسية لكرة القدم بقرار منع اللاعبات المسلمات في الأندية والفرق المحلية من ارتداء الحجاب. بل أكثر من ذلك، لم يتوانَ عدد من الوجوه الإعلامية الفرنسية عن التعبير عن حقدهم الشديد على هذا اللباس، عبر انتقاد لاعبة المنتخب المغربي نهيلة بن زينة في أثناء مشاركتها بمونديال السيدات الأخير.
وأثار قرار الرابطة الفرنسية منع اللاعبات المحجبات امتعاض عدد من الفاعليات الحقوقية في فرنسا، بينها جمعية “الحجابيات” الفرنسية، التي عدّت القرار تمييزاً عنصرياً على أساس العِرق والدين يستهدف المسلمين ذوي البشرة السمراء.
وتتحجج السلطات الفرنسية بـ”علمانية الدولة” كمبرر في سن هذه القرارات التمييزية ضد النساء المسلمات، بينما ترى لبنى الرقيق، رئيسة جمعية “الطلبة المسلمين في فرنسا”، أنه “في حين أن حجر الزاوية في العلمانية الفرنسية هو الحرية والمساواة، فقد تحولت فرنسا إلى معاداة أقلياتها تحت ستار دعم العلمانية”.
وربطت الرقيق بين هذا التوجه والممارسات الاستعمارية القديمة لفرنسا، إذ كان اضطهاد النساء المسلمات نوعاً من التدنيس والعقاب الاجتماعي على مقاومة الاحتلال. وقالت الكاتبة: إنه “في عام 1935، عندما أطلقت “الفرقة الخامسة” التابعة للجيش الفرنسي العنان لحرب نفسية في الجزائر، كان استهداف المرأة الجزائرية جزءاً أساسياً من استراتيجية أوسع تهدف إلى السيطرة على السكان الخاضعين للاحتلال وقمع سعيهم إلى الاستقلال”.
وفي حديثها لـTRT عربي، توضح رباب الرزيني، الباحثة في الأنثروبولوجيا الثقافية والإثنولوجيا من جامعة تور، أن قرار حظر العباءة “يثبت أن هم حكومة ماكرون هو خدمة مصالح البورجوازية البيضاء، وأن مفهوم العلمانية والديمقراطية الفرنسية الجديدة ليستا إلا أداة لخدمة المصالح الاقتصادية لهذه الطبقة”.
وتضيف الرزيني بأن: “قرار الحظر لا يستند إلى المبادئ الثلاثة الأساسية للعلمانية الفرنسية الأصيلة، التي تصب في منحى احترام الأديان ومساواة جميع الأفراد أمام القانون من دون تمييز على الأساس الديني (…) وبالتالي، فهذا القرار يطعن في هذه العلمانية التي يأخذها اليمين ذريعةً لتبريره”.
محاولة لإبعاد المسلمين عن الحياة السياسية؟
يرى محللون أن قرار حظر ارتداء العباءة في المدارس الفرنسية، يذهب لأبعد من إجراء تمييزي ضد الجالية المسلمة بالبلاد، بل إلى استبعاد هذه الجالية من المشاركة في الحياة السياسية الفرنسية.
وهو ما تؤكده عالمة الاجتماع الفرنسية كوثر هرشي، في مقالها الأخير على صحيفة “الغارديان”، موضحة أن هذا القرار “يهدف في جوهره إلى استبعاد جزء من الشعب الفرنسي من المشاركة في الحياة السياسية، وزيادة موجة التخويف من الإسلام، إذ لا يُنظر إلى الفتيات اللاتي يرتدين العباءة على أنهن مجرد طالبات، بل كمبعوثات للإسلام العالمي الذي يتآمر ضد الأمة الفرنسية”.
وتضيف الكاتبة: أنه “عندما تستمع جيداً لبعض الخطابات التي تبرر منع العباءة في المدارس، يتبيّن لك أن هناك تحولاً، فلم يعد الأمر يتعلق بحظر الملابس الطويلة الفضفاضة لتخليص الشابات من قبضة السلطة الأبوية الإسلامية، بقدر ما يتعلق بحماية الطلاب الآخرين مما يوصف بالتهديد التبشيري، الذي يمكن أن تشكّله المراهقات اللاتي يرتدين العباءات”.
وترى عالمة الاجتماع أن “المناقشة الوحيدة التي ينبغي لنا أن نخوضها لا تدور حول ما تفعله هؤلاء الفتيات الصغيرات بأجسادهن، وما يكرسن عقولهن له، بل حول السياسات التي تنشرها الدولة الفرنسية للسيطرة على أجساد وعقول الأقليات العرقية”، وبالتالي فإنه “بغضّ النظر عمّا يفعله أو يفكر فيه هؤلاء الشباب والشابات، فإنهم دائماً ما يكونون محاصرين من الآخر الذي يختزلهم إلى أجساد لا تملك القدرة على التفكير”.
ومن هذا تخلص كوثر هرشي إلى أن “جوهر هذا النقاش، هو استبعاد جزء من الشعب الفرنسي من المشاركة في الحياة السياسية، ولذلك نحن بحاجة إلى إعادة التأكيد على حق كل فرنسي، مسلماً كان أو غيره، في ممارسة حقه الكامل المتأتي من حصوله على الجنسية الفرنسية”.
المصدر: TRT عربي