بعض الأغاني التي خلّدها التاريخ، يتناقلها الناس جيلا بعد جيل، وترتبط في أذهانهم بمناسبات معينة، حتى يصبح صعبا على المرء أن يتذوق الأغنية بدون المناسبة، أو أن يعيش المناسبة دون سماع تلك الأغنية.
من هذه الأغاني نستحضر من اليمن أغنية “آنستنا يا عيد”، لتحكي لنا الجزيرة الوثائقية قصتها في حلقة من سلسلة “حكاية أغنية”.
“اضحك على الأيام”.. أهازيج الليلة الأخيرة من رمضان
في آخر ليلة من رمضان الموافق للسنة الميلادية 1964 اجتمع الشاعر عباس المُطاع والفنان علي الآنسي، ولم يكن في علمهم أن غدا هو أول أيام عيد الفطر، فجاءهم حسين الجبري وأخبرهم أن غدا يوم العيد، فماذا لديهم لاستقباله؟
وجه الآنسي السؤال للشاعر المطاع، فما كان منه إلا أن انتزع الورقة البيضاء التي في علبة التبغ وكتب عليها هذه الكلمات:
اضحك على الأيام وابرِدْ من الأوهام
واسبح مع الأنغام وافرح بهذا العيد
آنستنا يا عيد
وناولها على الفور للفنان الآنسي، فلحّنها من ليلته بألحان أشجت الجمهور اليمني والعربي حتى يومنا هذا، وتوحي كلمات الأغنية ولحنها بالسعادة والفرح وترك الهموم، والتسامح والتآخي بين الناس، فهذه الأيام المباركة لا تحتمل خصاما ولا نزاعا بين الإخوة.
“سلّم على أحبابك”.. صدفة تصنع أغنية خالدة في صنعاء
يقول عبد السلام ابن الفنان علي الآنسي: كان عباس المطاع من أصدقاء والدي، وقد سجلت الأغنية في منزلنا بحي الباشا في صنعاء القديمة، بحضور مجموعة من الفنانين، منهم أحمد السنيدان وحمود زيد عيسى، مع لفيف من الأصحاب الذين شكّلوا الكورال الغنائي ليلتها.
سلّم على أحبابك وأهلك وأصحابك
وقل لمن عابك مبروك عليك العيد
آنستنا يا عيد
انتشرت الأغنية سريعا بين الحاضرين في المجلس، ثم ما لبثت أن انتشرت بين اليمنيين كالنار في الهشيم، وذلك بعد تسجيلها في الإذاعة. وقد جاءت هذه الأغنية بمحض الصدفة، فالسهرات الرمضانية كانت من الأشياء الأساسية التي يحرص عليها المجتمع اليمني كل ليلة.
في تلك الأيام كان الفنان على صلة مباشرة بالجمهور، فلا تلفاز آنذاك، وكان بث الإذاعة لا يتجاوز ثلاث ساعات في اليوم. وكان علي الآنسي محبوبا لدى الجمهور اليمني وقريبا منه، وكان منزله لا يخلو من الأصدقاء والمستمعين، حيث يتحفهم كل ليلة بما لديه من جديد.
عدوّك اضحك له وإن كان عديم قُلّه
ومن الحنق قِلَّه مش وقته ياخي عيد
آنستنا يا عيد
وهي أغنية مسلية تعبر عن هموم المواطن وأفراحه، استوحى الشاعر كلماتها من وجوه الناس الذين يلتقي بهم على مدار اليوم، وترجم فيها كآبتهم وهمومهم إلى معاني السعادة والفرح وترك الهمّ والكآبة.
ويرتبط الغناء اليمني في الغالب بالمناسبات، كالأعراس والأعياد، لكن لهذه الأغنية وقع خاص، حتى أنها ارتبطت بالعيد ارتباطا وثيقا:
مش وقت قالت قال ودحسِ عال العال
وما يهمّ البال خلّيه لبعد العيد
آنستنا يا عيد
“سلام سلام يا أصحاب”.. معاني الأخوة الخالدة في مقام البيات
نقلت أغنية “آنستنا يا عيد” معاناة المواطن اليومية، بلغة بسيطة يفهمها عامة الناس، وتدعو الأغنية إلى مكارم الأخلاق من صلة الأرحام والعطف على المساكين، وترك الأحقاد والتسامح مع الخصوم، وبث السعادة والفرح بين الناس.
يقول عبد السلام الآنسي: كان والدي يجلس في البيت ويقوم بتلحين الأشعار بأكثر من لحن، وهذه الأغنية “آنستنا يا عيد” لحّنها بلحنين مختلفين، ليخيِّر الناس بين ما يحبون:
سلام سلام يا أصحاب يا أهلي يا أنساب
عدتم جميع يا أحباب لأمثال هذا العيد
آنستنا يا عيد
نجحت الأغنية نجاحا باهرا بكلماتها المبسطة، ولحنها الجميل الذي كان على مقام البيات، وسمعها المثقف والعامّي، وأهل الريف والحضر، وسيطرت على آذان المستمعين، على الرغم من وجود عشرات الأغاني الأخرى التي تتحدث عن المناسبة، حتى أصبحت أيقونة اليمنيين ليوم العيد، لا يحسون بمَقْدَمِهِ إلا بها.